ليس فيلماً عادياً. إنه صادم وقاتل وراعب وخرافي، وأكثر من ذلك يمكن وصف فيلم «مجزرة» لمونيكا بورغمان ولقمان سليم وهيرمان ثييسن. يتحدث الفيلم عن مجزرة صبرا وشاتيلا من زاوية أخرى وهي رواية مرتكبي المجزرة الذين اشترطوا ألا تظهر ملامحهم، والذين اختلطت مشاعرهم وطرائق تعبيرهم وهم يتحدثون عن تفصيلات ما حدث، حتى أن أحدهم قال: «إن الحديث عما حصل قد يكون أصعب من القتل، فالمعركة العسكرية انتهت، لكن معركتي مع نفسي لم تنته.. لم يحاكمني أحد على ما فعلت، واليوم، وأنا أتحدث في هذا الفيلم أشعر أن الحكم يصدر وينفذ».
يبدأ الفيلم شخص يضع سيجارة في أصابع يده اليسرى، ويرسم بيمناه دائرة يصور بها (الجورة) التي ألقيت فيها جثث الضحايا، ويحيطها بنقاط تبدو أصفاراً يقول: هم الفلسطينيون، «كانوا يجبرون على الوقوف حول (الجورة)، وكنا 6 أو 7 نطلق عليهم النار تباعاً، ونجبر كل واحد منهم على إلقاء جثة من بجانبه في (الجورة)، وهكذا ..». ويبدأ برسم خرائط لا يعرفها إلا هو وقلة من أصدقائه، ربما، ثم يروي الحكاية متحدثاً عن «مارون»، الذي يتضح لاحقاً أنه مارون مشعلاني، وعن الخميس 16 أيلول، يوم وقوع المجزرة، وعن الشعار «كبير صغير .. مقمط بالسرير .. ما في يمة ارحميني»، وعن 25 مسلحاً يملكون كلاشينات وقنابل، وبعضهم يملك (ام 16)، وبحوزتهم (ام 7)، لم يضطروا إلى استخدامها.
يقول آخر «كنا على قناعة بأن هذا الصغير إن لم نقتله اليوم، فسيقتلنا عندما يكبر، وهذه الفتاة لو تزوجت ستنجب أطفالاً قد يقتلونا، وهكذا». في حين يردد آخر «كنا سعداء بالحرب، كنا نقلد أفلام (الويسترن). كانت أياماً حلوة وخطرة. جميل أن تحارب الفلسطينيين، فهم بارعون في حرب الشوارع، ولا ينجو من الحرب معهم إلا اللي قد حاله. كان الجو العام يُشعرنا بالنشوة، ويعطينا ثقة أكبر بأنفسنا، حتى أن بعضنا ما عاد قادراً على النوم من دون سماع إطلاق النار».
تدريبات في إسرائيل
تحدث القتلة عن دور بشير الجميل في تشكيل فرقتهم التي عرفت بفرقة «الصدم» التي كان يريدها حرساً شخصياً له، ولتنفيذ عدد من الاغتيالات السياسية خارج لبنان، مؤكدين أنهم تلقوا تدريبات قاسية في إسرائيل، وبالتحديد في حيفا وإيلات، حيث نقلتهم البوارج الإسرائيلية إلى هناك. كما تحدثوا عن تدريبات «حرب البقاء» في «الأحراش الإسرائيلية»، وقسوتها، فكانوا يجبرون على المكوث لأكثر من يومين في برميل ممتلئ حتى النصف بالماء، في حين كانوا يلقون جميع أصناف التعذيب الذي من الممكن أن «يتعرّضوا له على أيدي القوات، والأجهزة الأخرى». وتحدث أحدهم عن «تيخا»، المجندة الإسرائيلية التي خاضت معهم تدريباً عارياً في إيلات، وعن استجمامهم في شاطئ العراة هناك، وتحدث آخر عن حضورهم أفلاماً عن المحرقة اليهودية في ألمانيا، كما زاروا المتحف الإسرائيلي، والكنيست، وذلك لكسب تعاطفهم مع المعاناة اليهودية، وقد نجحوا إلى حد ما في ذلك.
روى القتلة حالة الفوضى والهيجان التي أصابتهم عند اغتيال بشير الجميل، حتى أن البعض يتحدث عن أن الحزن يرافقه إلى هذه الأيام بسبب مقتل هذا الرجل، ويقول: ما عادت الروح تدبّ فينا بعد مقتله. كان كل واحد منا قنبلة موقوتة»، فانطلقوا إلى صبرا وشاتيلا على اعتبار أنهم ذاهبون للأخذ بالثأر. اجتمع بهم مارون مشعلاني وأخبرهم أنهم ذاهبون للثأر، وأن عليهم أن يُعدّوا أنفسهم لذلك، وكان يرافقه مسؤول في جهاز الأمن اللبناني يدعى جورج ملكو، وجوده كان يوحي للقتلة بأن شيئاً ما «مش نظيف، وشيء فوق الطبيعة» سيحدث.
تقطيع أوصال واغتصاب ونهب
روى بعضهم حكايات عن المجزرة نفسها، منها كيف أنهم لم يكترثوا لعويل النساء الفلسطينيات عند خروجهن من منازلهن، فيُردوهنّ قتيلات، ومن ثم بقية أفراد العائلة. يقول أحدهم: «كانت لدينا أوامر بقتل أي شخص نراه، مهما كان عمره وشكله. كنا نريد إيصال رسالة، لا نعرف إلى من، بأننا غاضبون». وتحدث أحدهم، وهو يقلّب كأساً بين يديه عن مشهد لا ينساه، وهو اكتشافه لأسرة قتلت، في وضعية كان الأب والأم والأطفال الأربعة يحتضنون بعضهم البعض، في حين أكد ثانٍ أنه فقد الوعي، حين رأى صديقه، ويعمل جزاراً، يقتل الفلسطينيين بساطوره، ويقطع أوصالهم. «كان يتعامل معهم كخراف أو عجول» .. كان وحده من يقتل بهذه الطريقة، في حين كان 4 يقتلون بالرصاص، والآخرون يلقون الجثث في (الجورة).
وتحدثوا عن سرقة الفلسطينيين قبل قتلهم، وعن اقتحام الدكاكين، والسطو على كل ما فيها من أطعمة ومشروبات. كما لم ينس هؤلاء حوادث الاغتصاب، وتلك الفتاة الفلسطينية الشقراء التي اغتصبها صديقه ثم قتلها، وتلك التي توقعت أن عدم المقاومة في أثناء الاغتصاب سينجيها من الموت، لكن مغتصبها قتلها على الفور، بعد أن أفرغ شهوته فيها.
شارون يقتل طفلين
كان المخرج الهولندي اليهودي جورج سلويتسر اتهم رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرييل شارون بأنه قتل طفلين فلسطينيين في مخيم صبرا العام 1982 وكان في حينه يتولى وزارة الحرب. وقال لصحيفة «فولكسكرانت» الهولندية إن شارون أطلق النار من مسدس على طفلين فلسطينيين أمام نظره، وكأنه يطلق النار على أرانب عند مدخل صبرا وشاتيلا في العام 1982. وأضاف سلويتسر إنه شاهد عملية القتل بينما كان يعمل على إعداد فيلم وثائقي في لبنان عن مجزرة صبرا وشاتيلا. وقال: كنت على مسافة قريبة جداً من شارون الذي كان وزير الحرب وقتئذ، وقد أطلق النار عليهما عن مسافة عشرة أمتار تقريباً بمسدس كان في حزامه. ونشرت اتهام سلويتسر لشارون مجلة «هولندا الحرة» التي تنشر عادة تحقيقات مهمة لمناسبة افتتاح مهرجان الأفلام الوثائقية في أمستردام الذي عرض خلاله فيلم وثائقي لسلويتسر بعنوان «الوطن»، ويظهر فيه المخرج وهو يقول لصورة شارون إنه كان من الأفضل لو أن شارون مات في معسكر الإبادة النازي «أوشفيتز».
الجذور لا تموت
عربياً يعتبر فيلم «لأن الجذور لا تموت» للمخرجة نبيهة لطفي الذي يتناول حكايات عن مخيم «تل الزعتر» ما قبل المجزرة التي تعرّض لها وما بعدها، الوثيقة السينمائية الأبرز، ولربما من بين الوثائق السينمائية النادرة عن المجزرة، والذي ما إن تنتهي من مشاهدته حتى تكاد تشعر برغبة عارمة بالبكاء إذا تمكنت من حبس دموعك طوال 55 دقيقة هي مدة الفيلم.
الفيلم النادر الذي عرض في أكثر من مناسبة في الأراضي الفلسطينية، شارك في تصويره عدد من رموز سينما الثورة الفلسطينية، التي عملت نبيهة لطفي في إطارها، ومن بينهم الشهيد عمر مختار، وإدوارد القش، وسمير نمر، والراحل مصطفى أبو علي، ومنتجه فؤاد زنتوت، وهو يحتوي شهادات مؤلمة تقشعرّ لها الأبدان لضحايا المجازر المتعاقبة على «تل الزعتر»، وبخاصة المجزرة الشهيرة في آب 1976، ما يجعل الفيلم وثيقة مهمة ولاسيما في ظل ضياع النسبة الأكبر من أرشيف السينما الفلسطينية.
يبدأ الفيلم بصوت امرأة تستنجد، فمشاهد للحياة اليومية للاجئين الفلسطينيين في المخيم قبل المجزرة، على خلفية أغنية للشيخ إمام عن «تل الزعتر»، قبل أن يدخل في شرح موجز عن المخيم، ثم شهادات لنساء عما تعرّض له أقاربهن من مجازر بشعة منذ ستينيات القرن الماضي. فهناك من تحدثت عن اكتشاف ابنها مقتل ستة من أبناء المخيم بعد اختطافهم، وهناك من تحدثت عن قيام جنود لبنانيين بجرّ أمها من شعرها إلى «مخفر الدرك» لاستجوابها بخصوص مخالفة تتعلق بتوسعة في منزلها بالمخيم!
شهادات مؤلمة
يقدّم فيلم نبيهة لطفي وجبة معلوماتية بالصورة والصوت للمعارك التي دارت في آب 1976 بين المقاومين الفلسطينيين داخل المخيم، وبين قوات الكتائب والأحرار اللبنانية، مدعمة بقصاصات لأخبار من صحف لبنانية بعضها كان يتغنى بالمقاومة الفلسطينية ويعبر عن تضامنه معها، وبعضها عبر عن فرحته بانكسار «أسطورة تل الزعتر».
وتنتقل نبيهة لطفي وزملاؤها المصورون بعدها إلى «الدامور» لتجمع شهادات من الناجين من المجزرة التي راح آلاف الفلسطينيين ضحيتها. وهي شهادات مؤلمة تتواصل حتى نهاية الفيلم الذي يتضمن شهادة مفجعة وصادمة لطفلة تحدثت عن تجربتها في النزوح من المخيم، حيث قام رجال حزب الكتائب اللبناني وحزب الأحرار اللبناني بقتل الشبان أمامهم، وأرغموا الأطفال، وكانت واحدة منهم، على غرس أحذيتهم في الأرض المخضبة بدماء الشهداء، كتصريح لهم بالخروج.
[عن ملحق "فلسطين" لجريدة "السفير" اللبنانية]